السياسة والاقتصاد- جدلية العلاقة وتأثيرها على العلاقات الدولية

المؤلف: علي محمد الحازمي10.10.2025
السياسة والاقتصاد- جدلية العلاقة وتأثيرها على العلاقات الدولية

إن فرض الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة ترمب لرسوم جمركية باهظة على العديد من الدول، والتطلع إلى ضم كندا العزيزة كولاية أمريكية تابعة، وممارسة ضغوط متزايدة على الدنمارك بهدف الاستحواذ على جزيرة غرينلاند الشاسعة، وتحويل منطقة غزة المحاصرة إلى منتجع سياحي فخم، كل هذه الإجراءات والتوجهات تعيد إلى الأذهان الجدلية التاريخية العميقة حول العلاقة الوطيدة بين السياسة والاقتصاد. وتُظهر هذه التوجهات بشكل جلي وواضح التقاطع الحتمي بين السياسة والاقتصاد، وغير ذلك من الاعتبارات الأخرى المتداخلة، وكأن الرئيس ترمب يهدف إلى التأكيد على حقيقة راسخة وهي أن العديد من القضايا الاقتصادية الهامة تُرى وتُفهم من خلال منظور المعتقدات السياسية المتباينة.

تاريخياً، يُعتبر كل من آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وجون ستيوارت ميل، بمثابة المؤسسين والرواد الحقيقيين لعلم الاقتصاد الحديث. وفي الوقت ذاته، أطلق هؤلاء الرواد على أنفسهم لقب خبراء الاقتصاد السياسي، ويُعد كتاب ستيوارت ميل الشهير «مبادئ الاقتصاد السياسي» النص المرجعي الأساسي لهذا العلم منذ نشره في عام 1848 وحتى نهاية القرن التاسع عشر. ولم يكن لدى هؤلاء المفكرين والمنظرين الأوائل أي تصور أو تخيل لإمكانية الفصل بين الاقتصاد والسياسة، بل اعتبروهما وجهين لعملة واحدة لا تنفصل.

استمرت العلاقة بين السياسة والاقتصاد كوجهين لعملة واحدة لا تنفصم عراها حتى بدايات القرن العشرين، حيث تم تأسيس علم الاقتصاد والعلوم السياسية كتخصصين أكاديميين منفصلين ومستقلين بذاتهما. وقد أدت اتجاهات وتحولات عديدة إلى هذا التحول المحوري والهام في العلاقة الوطيدة بين السياسة والاقتصاد. أولاً، بدأت الحكومات في تقليص سيطرتها المباشرة على الاقتصاد، وذلك انطلاقاً من مبدأ راسخ وهو حرية الأسواق وآلياتها. وثانياً، ظهرت أشكال سياسية مختلفة ومتنوعة، تجسدت في انتقال الدول الأوروبية تدريجياً من الحكم الملكي البحت إلى الملكية المدنية والديموقراطية التي تقوم على حكم الشعب. وقد ساد هذا الانقسام والتفريق طيلة أغلب فترات القرن العشرين، إلى أن حدث الكساد العظيم والمدمر في العام 1929 الذي غيّر بشكل جذري وجه التاريخ الاقتصادي والسياسي برمته. وترافق مع ذلك الكساد مشاكل جمة في التنمية والازدهار، وكانت القضايا الاقتصادية المستعصية والمعقدة البحتة مرهقة وشاقة بما يكفي لإشغال كبار خبراء الاقتصاد، وعلى نحو مماثل، كانت المشاكل السياسية الحساسة في ذلك التوقيت العصيب، كالحربين العالميتين الأولى والثانية المروعتين، وصعود الفاشية والشيوعية، تتطلب اهتماماً سياسياً مكثفاً ومنفصلاً.

وبحلول سبعينيات القرن العشرين، أصبح من الواضح والجلي للعالم أجمع أن الفصل المصطنع بين المجالين الاقتصادي والسياسي كان مضللاً وخاطئاً بكل المقاييس. فقد شهد ذلك العقد انهياراً مدوياً للنظام النقدي الدولي المعروف بـ "بريتون وودز"، وصدمتين عنيفتين في أسعار النفط العالمية، والركود التضخمي الحاد. كل هذه الأحداث الجسام سلطت الضوء الساطع على الحقيقة الأزلية الراسخة منذ قديم الزمن، التي تؤكد على أن السياسة والاقتصاد لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر بسهولة ويسر، فكل منهما يؤثر في الآخر بشكل مباشر ويتأثر به بشكل كبير، مما يخلق ديناميكية مستمرة ومتواصلة في تشكيل مسار العلاقات الدولية المتشابكة والمعقدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة